Share

التفكير كطبيب طوارئ 

كتابة: د.جو ليكس

ترجمة: نواف العمري

لماذا نحن مختلفين؟ كيف نميز أنفسنا عن باقي التخصصات الطبية؟ نحن نعمل في بيئة مختلفة ساعات مختلفة و مع مرضى مختلفين أكثر من أي تخصص آخر. شعارنا هو “أي شخص، أي شيء، أي وقت”

بينما الأطباء الآخرون يتجادلون في سؤال “ما الذي يعاني منه هذا المريض؟” (بمعنى “ما هو التشخيص؟”) أطباء الطوارئ يفكرون باستمرار في “ما الذي يحتاجه هذا المريض؟ الآن؟ بعد ٥ دقائق؟ بعد ساعتين؟”

إن مفهوم رؤية مرضى غير متمايزين بأعراضٍ فقط، لا بتشخيص، لمفهوم غريب على الكثير من زملائنا الأطباء. بينما نحن نعيشه بشكلٍ يومي، مراتٍ متعددة في المناوبة الواحدة.

في كل مرة أقدم نفسي لمريض، لا أعلم إطلاقا في اتجاه قد تسير الأمور. لكني أشعر كما أن علي أن أقوم بقول هذا: 

أهلا يا غريب، أن د.جو ليكس. سأقضي معك من الوقت ما أحتاج لتحديد هل من الممكن أن تموت عندي أو أن علي أن أدخلك المستشفى لتموت عند أحد من زملائي. أنت و أنا لم يسبق لنا الالتقاء قبل اليوم. لكن يجب عليك أن تأتمنني على حياتك و أسرارك، و يجب علي أن أثق أن إجاباتك صادقة. 

بعد اليوم على الأرجح أن لا نرى بعضنا البعض مطلقا. هذا اليوم قد يتحول إلى أسوأ يوم في حياتك، بالنسبة لي هذا مجرد يوم عمل آخر. قد أنساك بمجرد مرور دقائق بعد مغادرتك قسم الطوارئ، لكنك سوف تتذكرني لشهور و أعوام عديدة، أو حتى لبقية حياتك. 

سوف أسألك الكثير والكثير من الاسئلة. سأبذل كل ما بجهدي لكي اسأل الاسئلة الصحيحة بالترتيب الصحيح لكي أصل إلى القرار الصحيح. أريدك أن تخبرني القصة، ومن أجل أن أفهم هذه القصة، قد أقاطعك للاستيضاح أكثر من مرة. 

كل سؤال أسألك اياه هو قرار واعٍ من طرفي، لكن في مناوبة اعتيادية لي من ٨ ساعات سأتخذ ١٠٠٠٠ قرار من وعيي أو من عقلي الباطن – من أرى بعدك، ما السؤال الذي أسأل بعده، إلى حد علي أن أقوم بالفحص السريري، هل هذه فعلا نفخة قلبية، ماهو التحليل الذي علي أن أطلبه، ما الأشعة التي يجب علي أن أطلبها الآن، من هو أقل الاستشاريين احتمالية أن يصعّب علي تقديم الرعاية لك، هل بإمكاني الثقة بممرضتك بأن تؤدي مهمة السيطرة على ألمك على أكمل وجه، و هل سأتذكر أن أعطيك العذر الطبي قبل أن يحين وقت مغادرتك إلى المنزل؟ 

لذلك إن أخفقت في ٠.١٪؜ من هذه الأخطاء سأكون قد قمت بعمل عشرة أخطاء هذا اليوم. لذلك أتمنى لصالحنا أن يكون لديك حالة طارئة واضحة المعالم: التهاب السيلان، ركبة مخلوعة، ألم صدر يتماشى مع نمط STEMI على التخطيط القلبي. بإمكاني اكتشاف و معالجة هذه الأشياء بدون تفكير حتى. 

لكن من الناحية الآخرى، لو كانت مشكلتك غير واضحة المعالم، تزيد احتمالية أن أخطئ الطريق و أصل إلى استنتاجٍ خاطئ. يسعدني أن أخبرك أن الجسد البشري قادر على التحمل. نحن البشر تطورنا عبر آلاف السنين للنجاة، بحيث أنني حتى لو أخفقت، الاحتمالات قوية جدا جدا من أنك ستكون بخير. 

ڤولتير أخبرنا في القرن الثامن عشر أن ” فن الطب يتكون من تسلية المريض بينما تعالج الطبيعة المرض” في معظم الأحيان، هذا لم يتغير. 

و لويس توماس كتب: “السر العظيم للأطباء، يكتشفه أطباء الباطنة ثم يكتشفه في بداية الزواج زوجات أطباء الباطنة، لكن لا يزال مخفيا عن العامة، هو أن أكثر الأشياء تتحسن من تلقاء نفسها. أكثر الأشياء، في الواقع، تكون أفضل في الصباح التالي” تذكر أنك لا تأتي إلي بتشخيص بل تأتي بأعراض. 

قد يكون لديك واحد من أكثر من ١٠٠٠٠ آلاف مرض أو حالة، و – الحق يقال – إحتمالية أن أصل إلى التشخيص الصحيح تماما هي احتمالية ليست قوية. 

قد تكون لديك عرض غير معتاد لمرض معروف أو عرض معتاد لمرض غير معروف. إن كنت في بداية مرحلة المرض قد أفوت حالات تهدد الحياة كالنوبة القلبية  أو إنتان الدم. 

إن أهملت إخباري بكل صراحة عن تاريخك الجنسي أو استخدامك للمخدرات و الكحول، قد لا أكمل بالأسئلة المناسبة و أصل في النهاية إلى استنتاج خاطئ تماما عما تحتاجه و عن مشكلتك التي تعاني منها. الطريق إلى الموت، من الناحية الأخرى، طريق مباشر – فشل تنفسي، فشل في القلب، فشل في الدماغ، أو فشل في الأيض.

قد يخيب أملك أنه لم تتم رؤيتك من قبل “أخصائي”. الكثير من الناس يشعرون بأنه عندما تأتيهم نوبة قلبية، يجب أن تتهم رعايتهم من قبل طبيب أمراض القلب. يظنون أن عرض “ألم في الصدر” تذكرتهم لطبيب القلب، لكن ماذا لو كان ذاك الألم ليس نوبة قلبية و إنما غثيان و إنقطاع في التنفس، و ماذا لو كان ألم الصدر سببه تسلخ في الأبهر؟ 

فإذن أنت بالفعل تتم معالجتك من قبل “أخصائي”. أخصائيٌ بإمكانه تمييز الحالات القاتلة من البسيطة، و القلبية من الجراحية. نحن التخصص المدرب للتفكير بهذه الطريقة.

إن أصريت بالسؤال ” ما مشكلتي، دكتور ليكس؟” سيخيب ظنك عندما أخبرك ” لا أعلم حتى الآن، لكن بإمكانك الذهاب إلى المنزل” من دون أعطيك تشخيصا واضحا و من دون إجراء تحاليل. لكني أعلم أنه لو أعطيتك تشخيصا مختلقا كـ”إلتهاب رئوي بسيط” أو “إلتهاب في المعدة”، ستظن مشكلتك قد حلت، و الأطباء الأخرون سيعتمدون على هذا التشخيص، و قد لا تجد إجابتك أبدا.

هناك أخبارٌ جيدة: إننا كلينا في الغالب نفكر بأسوأ سيناريو ممكن. يأتيك صداعٌ فتفكر “هل لدي ورم في الدماغ؟” يأتيك ألم في المعدة فتقلق “هل هذا سرطان؟” الخبر الجيد أنتي أفكر تماما في نفس الشيء. و إن لم تسمعني أقول كلمة “سكتة” أو “سرطان”، فعلى الأرجح أنك ستظن أنني غبي لأني لم أقرأ أفكارك لأعرف ما الذي يقلقك تحديدا. أتفهم أنه مهما كان بسيطا ما تشتكي منه، إلا أن لديك خوفا من أنه أمرٌ سيء جدا.

بينما نتحدث، قد تتم مقاطعتي مرة أو مرتين. كما ترى، تتم مقاطعتي مرات عديدة كل ساعة – بالرد على مكالمات من استشاريين، التفاهم مع طاقم رعاية ما قبل الوصول للمستشفى، محاولة توضيح طلب مبهم إلى ممرضة، أو قد يتم طلبي لتقديم الرعاية لمريضٍ حالته أسوأ بكثير من حالتك. سأحاول جاهدا أن أمنع هذه المقاطعات من أن تعرقلني عن تقديم الرعاية المثلى لك في هذا اليوم.

سأستخدم علمي و خبرتي لأصل إلى القرار الصحيح من أجلك. لكنني منحاز، و معرفتي بانحيازي ليست كافية لتغييره. 

على سبيل المثال، أنا أعرف الطبيعة الفيسيولوجية لمرض الانسداد الرئوي بأدق التفاصيل، لكن الأبحاث السابقة في هذا المجال ترجح أنني لن أكتشف التشخيص على الأقل في نص المرات التي سيحدث فيها.

و هنا يأتي الأمر المثير للإهتمام: من المحتمل أن أرتكب هذه الأخطاء سواء أقمت بتحديد ما تعاني منه بالتعرف السريع أو بعد التحليل المنطقي. أطباء الطوارئ يشتهرون بالتفكير السريع و اتخاذ القرارات مبكرا بناء على القليل من المعلومات ( نمط التفكير ١). مختصي علم النفس المعرفي يخبروننا بأنه بإمكاننا التقليل من الأخطاء عبر اتباع التحليل المنطقي (نمط التفكير ٢). يتضح أن كلا النمطين قد يسببان الكم نفسه من الأخطاء، و أن الحل هو تعلم استخدامهما في آن واحد.

بعد أن أراك سأذهب إلى الكمبيوتر، و لربما أقضي عليه من الوقت في كتابة سجلك ما يقارب الوقت الذي قضيته معك. يجب علي فعل هذا لكي يتم الدفع للمستشفى و لي. كلما زادت الدقة التي أكتب فيها ما قلت أنت و ما فعلت أنا، كلما زاد مقدار المال الذي احصل عليه من شركة التأمين الصحي خاصتك. السجل النهائي قد لا يساعد الاطباء الآخرين في فهم ما حدث اليوم إلا إن توقفت عن النقر و قمت فعليا بكتابة ما تحدثنا عنه و شرحت طريقتي الفكرية. في مناوبتي ذات الثماني ساعات سأقوم بالنقر ما يقارب ٤٠٠٠ مرة.

ماذا قلت؟ ليس لديك تأمين؟ حسنا، لا داعي للقلق. الحكومة الأمريكية و العديد من الحكومات الأخرى قررت أنه علي أن أراك من دون أن أسألك عن وسيلة الدفع. لا، لا يدفعون لي أي مقابل مادي لقاء هذا، في الواقع قد أغرّم مبلغ كبيرا إن لم أقم برؤيتك. مقالة في ٢٠٠٣ قدرت أنني أقوم بتقديم ما قيمته ١٣٨ ألف دولار من الرعاية الصحية بشكل مجاني كل عام. 

لكنك أتيت إلى المكان الصحيح. إن كنت بحاجة إلى إجراءات منقذة للحياة مثل التنبيب الرغامي أو إبرة إفراغ الضغط الصدري، سأفعلها. إن كنت بحاجة إلى ولادة طارئة أو سيطرة سريعة على نزيف، يمكنني فعلا هذا أيضا. يمكنني أن آخذ عينة من سائل حبلك الشوكي، باستطاعتي خياطة جروحك، تعديل كتفك المخلوع، عمل قسطرة بولية لك. أستطيع انتزاع ذلك الجسم الغريب المزعج من عينك أو إذنك أو فتحتك الشرجية، بإمكاني إيقاف نوبة الصرع التي تعاني منها، و تهدئتك حتى تجتاز نوبة الهلوسة. 

طب الطوارئ يزعج الكثير من التخصصات الأخرى. نحن متواجدين ٢٤ ساعة في اليوم، ٧ أيام في الأسبوع. 

و نتوقع فعلا من الاستشاريين التواجد متى ما احتجناهم. نعم، نحن مستعدون تماما لإزعاج استشاري ما، إن كان هذا ما تحتاجه.

لقد رأيت آلافا من المرضى- كلٌ منهم فريد- على مدى ٥٠ عاما من الخبرة. لكن في كل مرة أفكر في كتابة كتاب أحكي فيه عجائب مسيرتي، أتراجع سريعا و أقول لنفسي “كلما ستفعله هو أن تزيد ثرثرةً على ماهو متواجدٌ أصلا – و ما قد تعلمته لا يمكن تعليمه ببساطة ولن يمكن تعلّمه بسهولة من الآخرين. ما تراه أنت كحكمة، يراه الآخرون كلاما مبتذلا.” 

الكاتب نورمان دوقلاس قال مرة: “ما هي الحكمة سوى مجموعة من الابتذالات. خذ ٥٠ من أمثالنا المتدوالة – إنها مبتذلة جدا و تافهة. على الرغم من هذا إنها تجسد التجربة المركزة للأعراق، و من يرتب حياته بناء على تعاليمها لن يضل ضلالا مبينا. هل سبق لشخص ما أن وصل إلى توازنه الداخلي عبر التفكر في تجارب الآخرين؟ لم يسبق ذلك منذ بدء العالم! لا بد من أن يمشي على النار”

هل سبق و أن سمعت بجون كولترين؟ لقد كان موسيقيا مدهشا و كان أحد أميز الفنانين في القرن العشرين. لقد بدأ كمقلد لبعض الفنانين القدامى ثم سرعان ما كون شخصيته الخاصة. لقد استمع إلى و استعار من مايلز ديڤيس و ثيلونيوس مَنك، الموسيقى الأفريقية و الهندية، المسيحية و الهندوسية و البوذية. و من هذه الأجزاء المتباينة قام بصنع شيءٍ فريد، مختلف عن أي شي قد سُمِع من قبل. كولترين لم يغير الموسيقى فحسب، بل غير تطلعات الناس عما يمكن للموسيقى أن تكون. 

بنفس الطريقة في طب الطوارئ أخذنا من الجراحة و طب الأطفال و العناية الحرجة، و طب الولادة، و طب الغدد و الطب النفسي، و صنعنا شيئا فريدا. و بفعلنا هذا، غيرنا تطلعات الناس عما يجب على الطب أن يكون عليه.

و الآن، كيف يمكنني خدمتك؟